المجتمع المدني العالمي وغزة والشرق الأوسط

المجتمع المدني العالمي وغزة والشرق الأوسط

تستعد عشرات السفن الكبيرة والصغيرة للإقلاع متوجهة إلى غزة عند نهاية شهر أغسطس الجاري في محاولة جديدة لكسر الحصار المفروض على القطاع وإغاثة سكانه الذين أنزلت بهم إسرائيل مجاعةً. تحرك هذه السفن يأتى بعد تجربتي السفينتين مادلين وحنظلة اللتين أوقفتهما إسرائيل في المياه الدولية، أي في أعالى البحار، في شهري يونيو ويوليو الماضيين، واعتقلت الناشطات والناشطين الذين كانوا على متنهما، ومنهم على ظهر السفينة حنظلة الناشطة السويدية الشهيرة في مجال مكافحة التغير المناخى، جريتا ثينبرج، وعضوة البرلمان الأوروبي الفرنسية، ذات الأصول الفلسطينية، ريما حسن.

السفينتان كانتا تحملان تركيبات غذائية للرضع، وأغذية، وأدوية، وعكازات، وكراسي متحركة لمن فقدوا جزئياً أو كلياً قدراتهم على الحركة، فضلاً على رسائل تضامن مع سكان غزة. سفينتا يونيو ويوليو توجهتا إلى غزة بمبادرة من «تآلف أسطول الحرية» الذي كان قد نشأ في سنة 2010 بالهدف المحدد لكسر الحصار المفروض على القطاع منذ سنة 2007. تصدت إسرائيل للسفن الست التي أرسلها التآلف في سنة 2010 وقتل جنود عملياتها الخاصة تسعة ناشطين كانوا على متنها. منذ سنة 2010، واظب التحالف على إرسال سفن إلى غزة، وهو فعل ذلك في سنوات 2011، و2015، و2018.

المتحدثة باسم «تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين» شددت في مؤتمر صحفى في مدينة تونس على أن -خلافاً للمرات السابقة- عشرات السفن، في أكبر أسطول مدني في التاريخ، ستقلع هذه المرة من موانئ حول العالم، أولها قافلة من السفن من موانئ في إسبانيا يوم 31 أغسطس، تتبعها قافلة أخرى من موانئ في تونس في 4 سبتمبر، وتتلاقى كلها في غزة.

 المتحدثة أشارت إلى أن نشطاء من 44 دولة سيشاركون في هذا المجهود المشترك الذي تنظمه أربعة تحالفات بهدف «كسر الحصار غير المشروع المفروض على غزة عن طريق البحر، وفتح ممر إنسانى إليها، ومواجهة عملية الإبادة الجماعية الجارية الموجهة ضد الشعب الفلسطيني». التحالفات المنظمة الأربعة هي: «تآلف أسطول الحرية» المذكور، و«أسطول الصمود المغاربي»، و«التحرك العالم إلى غزة»، و«صمود نوسانتارا» وهو تآلف من تنظيمات للمجتمع المدني في ماليزيا وثمانية بلدان أخرى في منطقتها. 

متحدث آخر باسم التنسيقية، في نفس المؤتمر الصحفى، أضاف أن عدد الناشطات والناشطين الذين سجلوا أسماءهم للمساهمة في المجهود المشترك تعدى الستة آلاف سيتلقون تدريبات في موانئ الإقلاع، وأن فعاليات للتضامن ستنظم، ومخيمات ستنصب على امتداد رحلات السفن. لم يبق إلا أسبوعان، سوف يتحقق المراقبون بعدها من كفاءة التنسيقية في تنظيم الأسطول وفي إبحاره وفي تدريب الناشطات والناشطين المشاركين في تظاهراته. نجاح هذا التنظيم وهذا التدريب، بصرف النظر عن مواجهة القوات الإسرائيلية للأسطول، يمكن أن تكون له آثار عظيمة الأهمية على ممارسة العلاقات الدولية وعلى حوكمتها لأنه سيكشف عن فعالية المجتمع المدني من عدمه.

إن كان الأسطول المتوجه إلى غزة اعتباراً من نهاية الشهر الجارى هو أكبر جهد ينظمه المجتمع المدني العالمي، فإن دلالته تستمد أيضاً من أنه ليس مجهوداً منعزلاً. هو يندرج في إطار تحركات للمجتمعات المدنية في بلدان عدة، تحركات وصلت إلى المجتمعات السياسية ذاتها. في لندن ونيويورك وباريس وكوبنهاجن وأمستردام وبرلين وغيرها سارت مظاهرات تطالب بوقف جرائم الحرب والإبادة الجماعية في غزة وتتضامن مع سكانها ومع مجمل الشعب الفلسطيني. 

أعضاء في المجلس البلدي لمدينة إسبانية صغيرة يرفعون العلم الفلسطيني على مقر بلديتهم. هتافات لمساندة سكان غزة والشعب الفلسطيني في حفلين غنائيين في كوبنهاجن وكوريا. مغنٍ كندي في حفلة غنائية يحييها يهتف لفلسطين. عارضة أزياء دانماركية ترفع لافتة أثناء عرض للأزياء تطالب بوقف الإبادة الجماعية في غزة، آلاف من العاملين والعاملات في الرعاية الصحية يتظاهرون في لندن من أجل غزة. 

برلمانيون إيطاليون من حزب النجوم الخمسة يشكلون علم فلسطين بملابسهم داخل قاعة مجلس النواب الإيطالى. أكثر من ثمانين منظمة أمريكية ودولية تطالب الكونجرس الأمريكى باحترام القانون الأمريكى وبوقف المعونة العسكرية الأمريكية لإسرائيل. زعيم حزب العمال البريطانى السابق، والعضو المستقل الحالي في مجلس العموم، جيريمى كوربن يعلن عن انعقاد محكمة شعبية بشأن غزة في 4 و5 سبتمبر القادم في لندن للنظر في المسئولية عن تمكين إسرائيل من مواصلة سياستها في غزة، ويتهم الحكومة البريطانية بالاشتراك في تحمل هذه المسئولية باستمرارها في تزويد إسرائيل بالسلاح.

ليس المقصود مما سبق أن الإجماع منعقد على إدانة سلوك إسرائيل في غزة ومجمل الأراضى الفلسطينية المحتلة وسائر الشرق الأوسط، ولكن النظرة السلبية لإسرائيل متصاعدة. في استطلاع للرأى أجرته مؤسسة جالوب في شهر مارس الماضى، كان التعاطف مع إسرائيل بين الأمريكيين في أدنى درجاته، في حين أن التعاطف مع الشعب الفلسطيني في أعلاها، محققاً قفزة تبلغ الستة في المئة. وفي يوليو وجدت جالوب أن 60 في المئة من الأمريكيين يستنكرون الحرب الإسرائيلية على غزة وهم كانوا 45 في المئة فقط في نوفمبر 2023. استطلاع آخر للرأى أجرته مؤسسة يوجوف البريطانية كشف أن أقل من 20 في المئة من المستطلعة آراؤهم في ست بلاد أوروبية في شهر مايو الماضى آراؤهم إيجابية بشأن إسرائيل.

 البلاد الست هى بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإسبانيا، والدانمارك، وإيطاليا. تراوحت معدلات التعاطف مع إسرائيل في هذا الاستطلاع في هذه البلدان بين 13 في المئة و21 في المئة، في حين كانت الآراء السلبية بشأنها فيما بين 63 في المئة و70 في المئة. في استطلاع لمؤسسة بيو في الربيع الماضى أبدى 72، و75، و75 ، و72، و60 في المئة من المستطلعة آراؤهم في هولندا وإسبانيا والسويد واليونان وكندا بآراء غير مواتية أو غير مواتية إطلاقاً بشأن إسرائيل. هذه المعدلات كانت 80 و79 و74 و93 في المئة في إندونيسيا واليابان وأستراليا وتركيا على التوالي، وكانت 61 و58 في المئة في المكسيك والبرازيل.

ذهب كُثر من المحللين إلى أنه لا يمكن لسياسي مثل الرئيس الفرنسى أن يتجاهل موقف الرأي العام في بلاده وأن هذا الموقف هو الذي دفعه إلى الإعلان عن اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر القادم. نفس التقدير انطبق على بريطانيا والبرتغال اللذين خرج رئيسا وزرائهما بعده بنفس الإعلان.

ما عسى الدول العربية، ومصر تحديداً، أن تفعل ومواقف المجتمع المدني العالمي وتحركاته كما بيّنا أعلاه؟ هذه مواقف وتحركات ذات قيمة لا يجوز تبديدها لأنها تصب في النهاية في مصلحة المواقف المصرية والعربية التي تبغي تسوية منصفة ومستدامة للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي وللصراع العربى الإسرائيلي الأعم ولصراعات الشرق الأوسط كافة، تسوية حقيقية، وليس إهالة للتراب على النزاع والصراعات تخبئ عن الناظرين جمراتها المتقدة القابلة للاشتعال بأشد ما كانت مشتعلة إذا ما هب بعض الريح فأزاح التراب عن الجمر المدفون. الجمر سيبقى متقداً في حالتين، بدون ترتيب؛ الأولى هي إن لم تجد القضية الفلسطينية تسوية منصفة مقبولة لأغلبية معتبرة من الشعب الفلسطيني، والثانية إن سعت إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الهيمنة على الشرق الأوسط والتعالي على دوله وشعوبه تهيئة لاستغلاله اقتصادياً بعد التوسع فيه إقليمياً.

المجتمع المدني في كل مكان تعددي، خاصة في الأنظمة السياسية التعددية. حتى في هذه الأنظمة، تعامل الدولة معه معقد، ليس سهلاً. لن تتفق الدولة مع هذا الاتجاه أو ذاك من اتجاهات المجتمع المدني. يزداد الأمر تعقيداً عندما يكون على دولة أو دول ما أن تتعامل مع مجتمع مدني عالمي يصدر عن ثقافات عامة وثقافات سياسية خاصة مختلفة ومتباينة. ولكن لا هذه الحجة ولا تلك ينبغي أن تكون عذراً يعفي من عدم التعامل معه ومن مساندة مجمل مسعاه في منطقتنا.

يضاف إلى ضرورة التعامل معه وأخذ مساعيه عموماً بجدية أن أى إعادة لصياغة الحوكمة العالمية، بإصلاح حقيقي لمنظومة الأمم المتحدة، أو باستبدال هندسة جديدة بها، لا بد من أنها ستفسح المجال لتمثيل ذي وزن للمجتمع المدني في عمليات اتخاذ القرار العالمية. ليس من المرجح أن يكون لتضييق الرئيس الأمريكي على المجتمع المدني في الوقت الحالي مستقبل طويل المدى.


نقلاً عن صحيفة الشروق


 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية